يعد كتاب “مستقبل البشرية في أدب الخيال العلمي – “هربرت جورج ويلز” مثالاً لمؤلفه أ. محمد علي حبش من الكتب الهامة الصادرة حديثاً عن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بجامعة دمشق ضمن سلسلة “كتاب الشهر” لمجلة الأدب، وفيه يسلط المؤلف الضوء على حياة العالم الإنجليزي “هربرت جورج ويلز” أحد أبرز كتّاب أدب الخيال العلمي في العالم. وقد قدّم للكتاب د. طالب عمران، وهو أحد روّاد أدب الخيال العلمي في الوطن العربي، قائلاً: “هذه الدراسة التي كتبها المؤلّف المعروف بدراساته المعمّقة في موضوعات مهمة لها علاقة بالتراث العلمي العربي عبر مختلف الإبداعات، قد تناول في كتابه الجديد دراسة معمّقة عن أعمال “ويلز”، وربما هي الأولى عربيّاً، عن روايات مهمة جداً من أعمال هذا الكاتب الاستثنائي التي تتحدّث عن مستقبل ليس فيه سوى الويلات وضياع الإنسان في عصور مظلمة جديدة بدأنا نتلمّس بوادرها. و”ويلز” إيقونة كتّاب الخيال العلمي المستقبلي، وهو من أغزر كتّاب الخيال العلمي إنتاجاً، في تشاؤمه من مستقبل البشرية وسط فوضى استخدام العلم في الابتكار والاختراعات التي يعتمد عليها الساسة وصنّاع القرار في تجارب مرعبة على البشر في المخابر، واللعب بالجينات، وابتكار وسائل تدمير مرعبة، وسط الحروب والمجاعات وقهر الإنسان في عصر تتحكّم فيه الفوضى التي أغرقت الكوكب في انهيارات بلدان وشعوب وانقراض الضمير الإنساني لدى الطغمة الحاكمة التي تتحكّم بالكوكب”.
المختبر السري
أهدى المؤلف محمد حبش الكتاب لأبنائه وأبناء الجيل الصاعد لعلّهم يستطيعون، إذا ما امتلكوا ناصية العلم والأخلاق، الحدّ من جماح ما ستؤول إليه الأوضاع في المستقبل الذي ربما يحمل الكثير من الغموض والخراب والضياع. مشيراً إلى أن أدب الخيال العلمي هو أحد فروع الأدب التي تستند إلى الاحتمال العلمي وتستكشف انعكاسات التكنولوجيا والعلم والفضاء والزمن على المجتمعات البشرية، لكنه يتجاوز حدود العلم ليغوص في أعماق المخاوف والطموحات البشرية. وتكمن أهميته – برأيه – في كونه ليس مجرد تصوّر لأدوات وتقنيات مستقبلية، بل وسيلة لرؤية الحاضر من خلال عدسة الغد؛ لأنه يُسائل الواقع، ويفكّك البنى السياسية والاجتماعية، ويقترح بدائل مستقبلية قد تبدو في وقتنا هذا مستحيلة أو غير واقعية. مع تأكيده على أن دراسة المستقبل في أدب الخيال العلمي تتطلّب مزيجاً من الرؤية التحليلية والوعي الثقافي والذوق الأدبي: “فأدب الخيال العلمي هو المختبر السري الذي تُختبر فيه احتمالات المستقبل، ويُعاد فيه تركيب الزمن والواقع”.
المدينة الفاضلة والديستوبيا
يسعى هذا الكتاب إلى تحليل أمثلة مختارة من أدب الخيال العلمي لفهم كيفية بناء المستقبل داخل النص الأدبي، وما إذا كانت هذه التصورات مجرد تنبؤات أم أدوات نقدية للواقع. فيبين حبش في الكتاب: “إذا كان التاريخ يُكتب بأثر رجعي، فإن أدب الخيال العلمي يكتبه بأثر مستقبلي. هذا الأدب الذي لطالما تجاوز حدود الممكن، لا يقدّم فقط عوالم غريبة وسفناً بين النجوم، بل يعيد تشكيل الأسئلة الأساسية عن الوجود، والسلطة، والتقنية، في عالم يتسارع فيه التقدم التكنولوجي بوتيرة غير مسبوقة، ليصبح أدب الخيال العلمي أداة لا غنى عنها لفهم المسارات المحتملة للمستقبل”. ويطرح، من خلال نماذج أدبية تتراوح بين المدينة الفاضلة والديستوبيا، سيناريوهات قد تتحقق أو تظل حبيسة المخيلة، لذلك تنطلق دراستي في الكتاب من فرضية أن أدب الخيال العلمي لا يتنبأ بالمستقبل بقدر ما يعيد صياغة الحاضر بأساليب استشرافية. وعليه، تناولتُ كيفية تمثيل المستقبل في عدد من النصوص المختارة لكاتب حمل الهمّ الإنساني في ثنايا أدبه، من روايات وقصص بديعة لهربرت جورج ويلز، مع مراعاة السياق التاريخي والثقافي للنصوص، لتبيان مدى مساهمتها في تشكيل تصوراتنا عن الغد. ولتفهم الرؤية المستقبلية التي كان “ويلز” يضمنها أدبه، كان لا بد من تتبع مساراتها السردية وتحليل بنيتها الفكرية، وهو ما تناولته في عدة فصول اخترت لها عناوين مستقاة من عناوين رواياته وقصصه.
الردع السريع
وللحديث أكثر عما جاء في الكتاب يحدثنا حبش قائلاً: “يتألف من تقديم ومقدمة وعشرة فصول وخاتمة، وفيه لمحة عن حياة أبرز كتّاب أدب الخيال العلمي في العالم الإنجليزي “هربرت جورج ويلز”، الذي يعتمد أسلوبين في معظم رواياته وقصصه: الأسلوب العلمي والأسلوب الأدبي. وقد اعتاد أن يتناول الهمّ الإنساني ومستقبل البشرية الذي يراه مظلماً نظراً لاتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، وما يشهده العالم من تفكك وحروب وصراعات تؤسس لنهاية البشرية! حيث يرى أن الحضارة البشرية المتنامية ليست إلا ركاماً تافهاً سينهار حتماً على رؤوس صانعيه ويدمرهم في النهاية. وهو الذي يخشى أن يؤدي التعديل الجيني إلى انفصال البشر الحاليين إلى نوعين مختلفين تماماً ومتصارعين حتماً: نوع متقدم جداً، ونوع متخلف وفقير وبدائي. ويستشرف الكتاب، وفق ما يراه “ويلز”، ما ستؤول إليه أوضاع البشرية والعالم إذا ما سيطرت عليه قوى خفية تتحكم في أحداث العالم تخطيطاً وتنفيذاً، بما يحقق مصالح قوى عالمية نافذة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وإعلامياً، وتستخدم في ذلك وسائل وهياكل سرية المضمون وإن كانت أحياناً علنية التنظيم، وهي التي تقف خلف معظم الحروب والأزمات والاغتيالات في العالم. طالما أن امتلاك سلاح الإخفاء سيفتح باباً للشر لا يمكن إغلاقه، فإنه لا بد من الردع السريع الحاسم لمن يغامر بالحصول عليه”.
نكبة كونية
في الكتاب حديث عن مصير كوكب الأرض والكوارث التي تؤدي إلى نهاية العالم، فيما لو حصلت تغييرات عجيبة في النظام الشمسي، مما يؤدي إلى نكبة كونية. وفيه أيضاً: “حديث عن مستقبل العالم الذي ستختفي منه فكرة الحياة الأسرية، وستزول منه الأساليب والطُّرز والزخارف المعمارية المؤطرة بالخشب، وسيحل محلها الواجهات الزجاجية، وستختفي البيوت ويحل محلها الفنادق، وسيهجر سكان الريف مقار سكنهم باتجاه المدينة، ليغدو الريف مهجوراً، وسينخفض الطلب على العمالة بسبب الآلات، وتختفي الأسواق المحلية والسكك الحديدية والطرق تماماً، وكذلك ستختفي الصحف حيث يبتعد الناس عن القراءة، ويلجؤون إلى وسائل أخرى للحصول على المعلومات”. مع تنبيه لمسألة غاية في الخطورة، تتمثل في أن البشرية حين يُسلب تاريخها أو يُشوَّه، وتُدمر حضارتها ومنجزاتها العلمية، إنما تُسلب روحها لتبقى جيفة، جسداً بلا روح، تتقاذفه القوى الشريرة والمسيطرة كيفما تشاء بما يخدم مصالحها، مع التذكير بالحالة الاكتئابية السائدة في المجتمع، والألم الذي يعانيه الإنسان، مما يعكس خوفه وقلقه وحزنه ووجعه، حيث غدا الإنسان يشعر بعدم أهميته وقيمته، وفقد رغبته في ممارسة أي نشاطات، وتشتت انتباهه، وباتت حالة الإرهاق والقلق التي يعانيها، وعدم شعوره بالسعادة، مسيطرة عليه لدرجة الشعور باليأس والإحباط والعجز. ويكمن الخلاص من تلك الحالة في جعل الإنسان يشعر باقتراب أجله ويتخيل أنه سينتقل من عالم الحياة إلى العالم الآخر”.
العودة إلى المعرفة والعلم
وعلى الجانب الآخر، لا يخلو الكتاب من ومضة تفاؤل لإنقاذ الجنس البشري عبر العودة إلى المعرفة والعلم وتنميتهما: “وهذا دور العلماء والفلاسفة والمفكرين، ولن يستطيع الإنسان استعادة هيمنته إلا عن طريق العلم في مواجهة المخاطر التي تتهدد البشرية، والمطلوب الانتصار على الضعف والتهميش والتحلي بقوة الإرادة والتصميم، وعدم الانخراط في الخطأ الذي سيجرّ أخطاء تؤدي إلى انهيارات تلو انهيارات، والعمل بهمة عالية لمواجهة العالم المادي وما يحصل في كثير من المجتمعات، وأن نضع أيدينا على الخطأ ونشير إليه بالبنان، لأن تفشي الأخطاء يعد بمنزلة انتزاع عين الصواب، مع السعي للخروج من عالم الكآبة والحزن والقلق والخوف، وعدم الاستسلام لتلك الحالات الناجمة عن تهميش العنصر البشري”.
التنبؤ بالمستقبل ودراسة المستقبل
يذكر أن المؤلف ميّز في كتابه بين التنبؤ بالمستقبل ودراسة المستقبل، والفروقات الرئيسة بين المفهومين واضحة بالنسبة لحبش: “المنهجية في التنبؤ بالمستقبل تعتمد على استقراء مباشر للواقع لغرض معرفة ما سيحدث بنبوءة، بينما المنهجية في الدراسات المستقبلية فهي متعددة، تحليلية، تأخذ بعين الاهتمام تعقيد النظم لغرض استشراف الخيارات الممكنة والاستعداد لها، ليس بنبوءة، بل بعلم اجتماعي مستقبلي يستند إلى تحليل علمي. وأدب الخيال العلمي لا يتنبأ ولا يجري دراسة مستقبلية، لكنه يحفز الخيال، ويفتح أسئلة استشرافية، ويساعد الدراسات المستقبلية كمصدر للسيناريوهات الثقافية والتخيلية. بمعنى أن التنبؤ يقول لك: “سيحدث”، والدراسة المستقبلية تقول: “قد يحدث”، والخيال العلمي يسألك: “ماذا لو حدث؟”.
هربرت جورج ويلز
اختُتم الكتاب بالتعريف بهربرت جورج ويلز، وجاء فيه أنه أديب ومفكر إنجليزي، من رواد أدب الخيال العلمي. كان غزير الإنتاج في العديد من صنوف الأدب، ومنها الرواية والقصة القصيرة والأعمال التاريخية والسياسية والاجتماعية؛ لكن ذاع صيته من خلال روايات الخيال العلمي التي كتبها، وأهمها – وهي الأولى – آلة الزمن التي صدرت عام 1895م، وأحدثت ضجة كبرى وقتها في الأوساط الثقافية، كما لاقت نجاحاً جماهيرياً كبيراً، ثم تتابعت أعماله فقدّم بعد ذلك جزيرة الدكتور مورو (1896م)، والرجل الخفي (1897م)، وحرب العوالم (1898م) وغيرها، التي حملت بعضاً من فلسفته وأفكاره، وأظهرت توقعاته لعالم المستقبل، رُشِّح “ويلز” لنيل جائزة نوبل في الأدب أربع مرات، وتوفي عام 1946م، بعد أن خلّد اسمه في الأدب العالمي بوصفه أحد رواده.
أ. محمد علي حبش
يذكر أن المؤلف محمد علي حبش حاصل على إجازة في الإعلام من جامعة دمشق (1989)، وماجستير التأهيل والتخصص في علم الاجتماع – التراث الشعبي، جامعة دمشق (2018). وهو مدير تحرير مجلة “الأدب العلمي”، كما ترأس إدارة تحرير العديد من المجلات، وهو عضو اتحاد الصحفيين السوريين واتحاد الكتّاب العرب. له العديد من المؤلفات، منها: جمهورية الصين الشعبية (دراسة تحليلية)، نظام الدرع الصاروخي وبوادر عودة الحرب الباردة، تقنيات تحليل النصوص الصحفية (كتاب مشترك)، الماء والتراب في التراث، ولا تزال معركة المصطلحات مستمرة (قيد الطبع)، اتحاد الكتاب العرب – دمشق. وله العديد من الأبحاث المحكّمة وغير المحكّمة، ومقالات منشورة في العديد من الصحف والمجلات المحلية والعربية، وشارك في عدد كبير من الندوات العربية والدولية.